فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويذيل الحق تبارك وتعالى هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها بقوله: {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
ومُتَعلّق الجار والمجرور دائمًا يكون متأخرًا، بينما هنا يتقدم الجار والمجرور؛ لذلك ففي الأسلوب حصر وقصر، مثلما نقول: لزيد المال أي أن المال ليس لغيره، وقول الحق: {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي لا يتوكلون على غيره، بل قصروا توكلهم على الله سبحانه وتعالى، والتوكل: أن تؤمن بأن لك وكيلًا يقوم لك بمهام أمورك، بدليل أن الشيء الذي لا تقوى عليه تقول بصدده: وكلت فلانًا ينجزه لي على خير وجه وحتى تختار الذي توكله ويكون مناسبًا لأداء تلك المهمة فأنت تعلن باطمئنان: أنك قد وكلت فلانا.
إذن معنى {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي أنهم يكلون أمورهم على من ائتمنوه على مصالحهم، وهو الحق سبحانه وتعالى القادر العظيم الذي خلق الكون، وخلق فيه أسبابًا تؤدي إلى مسبَّبات الأسباب مقدمة، والمسبّبات هي النتيجة. وبعد ذلك ترك أمورًا ليس فيها أسباب، إلا أن نلحظ دائمًا المسبب وهو الله تعالى، فكل أمر يعز عليك في أسبابه؛ إياك أن تيأس من أنه لا يحدث، بل قل: تلك هي قضية الأسباب، أما أنا فلي رب خلق الأسباب. وهو القادر فوق كل الأسباب، وفي حياتنا اليومية نلحظ أن الناس يخلطون بين عمل الجوارح، وعمل القلوب، ويظن إنسان ما أنه متوكل ولا يأخذ بالأسباب ويركن إلى الكسل ويقول: أنا متوكل على الله، وهذا نقول له: لا، إن هذا منك تواكلٌ وليس توكلًا؛ لأن التوكل ليس عمل جوارح، التوكل عمل قلوب.
والمؤمن الذي يستقبل منهج الله بالفهم يجد الأسباب التي يجب أن يأخذها، وسبحانه وتعالى هو المسبب الأعلى، والإيمان يؤكد أن الجوارح تعمل والقلوب تتوكل، فعلى الجوارح أن تحرث الأرض، وأن تختار البذرة الطيبة، وتنثرها في الأرض، ثم ترويها، وتتعهدها، وهذه العمليات اسمها الأسباب، ثم لا تركن إلى الأسباب فقط، بل عليك أن تقول: إن فوق كل الأسباب هناك المسبِّبُ.
فمن الجائز أن يخضر الزرعُ وينمو، ثم تأتي له آفةٌ من مطر أو حر وتضيعه.
ومن ينقل التوكل إلى الجوارح. نقول له: أنت تواكلت، أي نقلت عمل القلب إلى الجوارح. ومن يقول ذلك إنما يكذب على نفسه وعلى الناس. لأنه تكاسل عن الأخذ بالأسباب وادّعى أنه متوكل على الله. ولو كان الواحد من هؤلاء صادقًا في توكله على الله لأخذ بالأسباب. وعادة فإني دائمًا أقول لمن يدّعي التوكل مع الكسل: لماذا لا تترك الطعام يأتي إلى فمك، لماذا تمد إليه يديك؟. إن من يكسل إنما يكذب في التوكل، فلا أحد مثلًا يترك قطعة اللحم تقفز من طبق الطعام إلى فمه، لكنه يأخذها بيده. ويمضغها بأسنانه، ويبلعها بعد المضغ، ولو كان صادقًا في أن التوكل هو ألا تعمل جوارحه لما فعل شيئًا من ذلك، لكنه يكذب ويتواكل فيما يتعبه ويشغل جوارحه فيما يريحه، ولا يستعملها في الأمور التي تتعبه. وقول الحق تبارك وتعالى: {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
هذا القول يعني أنهم يؤمنون بأن الأسباب من خلق الله. وحين يأخذ المؤمن بالأسباب فهو يؤمن أنه لاجئ إلى الله ومعتمد عليه، لكن إن عزت عليه الأسباب فهو يعلم أن له ربًا، ولذلك قال: {وعلى رَبِّهِمْ}، والرب هو الخالق من عَدَم، والممد من عُدْم، وما دام قد خلقك وأمدك من عُدْم قبل أن يكلفك، فهل من المعقول أن يظلمك؟ طبعًا لا. لكن عليك أن تفطن أنه لك جوارح، فاستعملْ الجوارح فيما خلقت من أجله.
وتأتي الآية التالية لتوضح عمل الجوارح، وهي تحمل الصفتين الرابعة والخامسة من صفات المؤمنين: {الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال: 3]. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)}
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} قال: فرقت قلوبهم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} قال: المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله، ولا يتوكلون على الله، ولا يصلون إذا غابوا، ولا يؤدون زكاة أموالهم، فاخبر الله أنهم ليسوا بمؤمنين، ثم وصف المؤمنين فقال: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} فأدوا فرائضه.
وأخرج الحكيم الترمذي وابن جرير وأبو الشيخ من طريق شهر بن حوشب عن أبي الدرداء قال: إنما الوجل في القلب كاحتراق السعفة يا شهر أما تجد قشعريرة؟ قلت: بلى. قال: فادع عندها فإن الدعاء يستجاب عند ذلك.
وأخرج الحكيم الترمذي عن عائشة قالت: ما الوجل في قلب المؤمن إلا كضرمة السعفة، فإذا وجد أحدكم فليدع عند ذلك.
وأخرج الحكيم الترمذي عن ثابت البناني قال: قال فلان: إني لأعلم متى يستجاب لي. قالوا: ومن أين يعلم ذاك؟ قال: إذا اقشعر جلدي، ووجل قلبي، وفاضت عيناي، فذاك حين يستجاب لي.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في شعب الإِيمان عن السدي في قوله: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} قال: هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية، فيقال له: اتق الله. فيجل قلبه.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {زادتهم إيمانًا} قال: تصديقًا.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس في قوله: {زادتهم إيمانًا} قال: زادتهم خشية.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {زادتهم إيمانًا} قال: الإِيمان يزيد وينقص، وهو قول وعمل.
وأخرج أبو الشيخ عن سفيان بن عيينة قال: نطق القرآن بزيادة الإِيمان ونقصانه قوله: {زادتهم إيمانًا} فهذه زيادة الأيمان، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه.
وأخرج الحكيم الترمذي عن عمر بن الخطاب قال: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح إيمان أبي بكر.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وعلى ربهم يتوكلون} يقول: لا يرجون غيره.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإِيمان عن سعيد بن جبير قال: التوكل على الله جماع الإِيمان.
وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال: التوكل جماع الإِيمان.
وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن سعيد بن جبير قال: التوكل على الله نصف الإِيمان. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية.
لمَّا بيَّن أن الإيمان لا يحصل إلا بالطاعة قال: {إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} يقال: وَجِلَ الماضي بالكسر يَوْجَلُ بالفتح، وفيه لغة أخرى، قرئ بها في الشَّاذ وجَلَتء بفتح الجيم في الماضي وكسرها في المضارع، فتحذف الواو، كـ: وعَدَ يَعِدُ، ويقال في المشهورة: وجِلَ يَوْجَل، ومنهم من يقول يَاجَلُ بقلب الواو ألفًا، وهو شاذٌّ؛ لأنَّه قلْبُ حرفِ العلّة بأحد السَّببينِ وهو انفتاحُ ما قبل حرفِ العلَّةِ دون تحركه وهو نظيرُ طَائِيٍّ في النَّسب إلى طَيِّئ.
ومنهم من يقول: يبجَلُ بكسر حرف المضارعة، فتقلب الواوُ ياءً، لسكونها وانكسرا ما قبلها، وقد تقدَّم في أول الكتاب أنَّ من العرب من يكسرُ حرف المضارعةِ بشروطٍ منها: أن لا يكون حرفُ المضارعة ياءً إلاَّ في هذه اللَّفظةِ، فقال يَيَجَلُ فأخذ قلب الواو ممَّن كسر حرف المضارعة، وأخذ فتحَ الياءِ من لغة الجمهور.
والوَجَلُ: الفزَعُ.
وقيل: استشعارُ الخوف يقال منه: وجِلَ يُوْجَلُ، ويَاجَلُ، ويَيْجَلُ، ويِيجَلُ، وَجَلًا فهو وَجِلٌ.
{وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}
يفوضون إليه أمورهم، ويثقون به، ولا يرجون غيره، فالتَّقديمُ يفيدُ الاختصاص، أي: عليه لا على غيره، وهذه الجملةُ يحتمل أن يكونَ لها محلٌّ من الإعراب، وهو النَّصْبُ على الحالِ من مفعول: زادَتْهُم، ويحتمل أن تكون مستأنفة، ويحتمل أن تكون معطوفة على الصِّلةِ قبلها، فتدخل في حيِّز الصلاتِ المتقدِّمةِ.
وعلى الوجهين فلا محلَّ لها من الإعراب. اهـ. باختصار.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)}
الوَجَل شِدَّة الخوف، ومعناه هاهنا أَن يُخْرِجَهم الوَجَلُ عن أوطان الغفلة، ويزعجهم عن مساكن الغيبة. فإذا انفصلوا عن أوْدية التفرقة وفاءوا إلى مَشَاهِدِ الذكر نالوا السكون إلى الله- عز وجل؛ فيزيدُهم ما يُتْلَى عليهم من آياته تصديقًا على تصديق، وتحقيقًا على تحقيق. فإذا طالعوا جلال قَدْرِهِ، وأيقنوا قصورَهم عن إدراكه، توكلوا عليه في إمدادهم بالرعاية في نهايتهم، كما استخلصهم بالعناية في بدايتهم.
ويقال سُنَّة الحقِّ- سبحانه مع أهل العرفان أن يُرَدِّدَهم بين كَشْفِ جلالٍ ولُطْف جمال، فإذا كاشفهم بجلاله وَجِلَتْ قلوبُهم، وإذا لاطفهم بجماله سَكَنَتْ قلوبهم، قال الله تعالى: {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ} [الرعد: 28]. ويقال وجلت قلوبهم بخوف فراقه، ثم تطمئن وتسكن أسرارهم بروْح وصاله. وذكر الفراق يُفْنيهم وذكر الوصال يُصْحيهم ويُحْييهم.
ويقال الطالبون في نَوْحِ رهبتهم، والواصلون في روْح قربتهم، والموحِّدون في محو غيبتهم؛ استولت عليهم الحقائق فلا لهم تطلع لوقتٍ مستأنف فيستفزهم خوف أو يجرفهم طمع، ولا لهم إحساس فَتَمْلِكُهم لذة؛ إذ لمَّا اصْطُلِمُوا ببوادهِ ما مَلَكَهُمْ فَهُمْ عنهم مَحْوٌ، والغالبُ عليهم سواهم. اهـ.

.تفسير الآية رقم (3):

قوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما وصفهم بالإيمان الحامل على الطاعة والتوكل الجامع لهم الدافع للمانع منها، منتقلًا من عمل الباطن إلى عمل الظاهر مبينًا أن همتهم إنما هي العبادة والمكارم: {الذين يقيمون الصلاة} أي يفترون عن تجديد ذلك؛ ولما كانت صلة بين الخلق والخالق، أتبعها الوصلة بين الخلائق فقال: {ومما رزقناهم} أي على عظمتنا وهو لنا دونهم {ينفقون} ولو كانوا مقلين اعتمادًا على ما عندنا فالإنفاق وإهانة الدنيا همتهم، لا الحرص عليها، فحينئذ يكونون كالذين عند ربك في التحلي بالعبادة والتخلي من الدنيا إعراضًا وزهادة، وهو تذكير بوصف المتقين المذكور أول الكتاب بقوله: {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

والصفة الرابعة والخامسة: قوله: {الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ}
واعلم أن المراتب الثلاثة المتقدمة أحوال معتبرة في القلوب والبواطن، ثم انتقل منها إلى رعاية أحوال الظاهر ورأس الطاعات المعتبرة في الظاهر، ورئيسها بذل النفس في الصلاة، وبذل المال في مرضاة الله، ويدخل فيه الزكوات والصدقات والصلاة، والإنفاق في الجهاد، والإنفاق على المساجد والقناطر، قالت المعتزلة: إنه تعالى مدح من ينفق ما رزقه الله، وأجمعت الأمة على أنه لا يجوز الإنفاق من الحرام، وذلك يدل على أن الحرام لا يكون رزقًا، وقد سبق ذكر هذا الكلام مرارًا. اهـ.

.قال السمرقندي:

{الذين يُقِيمُونَ الصلاة}، يعني يتمونها في مواقيتها بركوعها وسجودها؛ {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ}، يعني يتصدَّقون مما أعطيناهم من الأموال، وينفقونها في طاعة الله. اهـ.